الأحد، 19 فبراير 2017

عبيد حاج الأمين ..... إرسال الطلبة إلي مصر








 دور عبيد حاج الأمين في إرسال الطلبة إلي مصر للتزود بالعلم والمعرفة

 وتبقي كلية غوردون علي الرغم ما بها من تحفظات، الصرح الهام الذي يغذي شبيبة تلك الفترة بالعلم والمعرفة وتبادل الثقافات وتنظيم الأشعار الوطنية خفية وفي مناسبات مختلفة كالأعياد وخلافه ولكن هل هذا كل ما يطمحون إليه؟ بلا ! لقد كانت أنظارهم تتجه نحو مصر وثقافتها العالية والنهضة المتقدمة وهذا هو تيار العمل السري من طلبة وموظفين وغيرهم، فهل ينجح أحد منهم في الخروج من قبضة المستعمر إلي مرماهم ، إلي مصر؟.  نعم .... في خريف عام 1923م ودع الرفاق من جمعية الاتحاد السوداني الطالبين (توفيق البكري، وبشير عبد الرحمن)، بمحطة الخرطوم للسكة الحديد، حيث رافق المودعين ("دينمو" الحركة الوطنية، كما لقبة صديقه سليمان كشة)، عبيد حاج الأمين الذي كان يؤمن أشد الإيمان بأهمية التعليم والنهل منه بقدر كبير، وبه تزدهر الأمم وتعلوا شامخة، و الرفاق شاعر الاتحاد توفيق صالح جبريل، وصاحب نسمات الربيع وعضو الاتحاد سليمان كشة، وهؤلاء الثلاثة من مؤسسي حزب الاتحاد السوداني. فعندما أنطلق القطار يحمل أول طالبين للعلم بمصر، صحابتهما دعوات الرفاق بان تواليهم رعاية الله وألا ينكشف أمرهم حتى يبلغوا مصر أمنيين، واستجاب الله لدعواتهم وتم لهم الوصول بسلام، وأكرم وفادتهما في منزله العامر فضيلة الشيخ الجليل"محمد نور الحسن" أحد علماء السودان بالأزهر الشريف. ولم يمر هذا الحدث بسلام!!! . فجن جنون الانجليز وصب جم غضبهم علي هؤلاء العصاة الذين فروا من قبضتهم، فكيف لهم أن يخرجوا عن طاعة أولياء أمورهم، فما لبثوا أن شنوا عليهم حرب شعواء وسدو أمامهم منافذ الرزق والمعونة، وحرموا علي هلهم ارسال أي مبالغأهلهذويهم إرسال أي مبالغ مساعدة لهم، فعاشو علي الكفاف وما دون الكفاف. وهنا يري الانجليز إن التعليم له دور في خلق رجالاً مناهضين لسياستهم عاملين لنيل إستقلالهم، وكيف لا ؟.... فقد عانوا من أثر التعليم في مصر وثورة 1919م"بقيادة سعد باشا زغلول" فهم لا يرغبون تكرار ذلك، الذي بات وشيكاً امتداد ثورة في السودان، لذلك جري معاملة الهاربين لمصر طلباً للعلم معاملة المجرمين الخارجين علي القانون، بل منعوا من العودة الي ذويهم وصحبهم، وها هو أحد طلبة العلم في مصر يرسل بعض ما جاشت به نفسه الي الصحاب لكي يصف لهم ما يعاني من فقد كثير، أثر في نفسه، فقال توفيق البكري منشداً: 

بكي في الدجى والناس لا يسمعونه
شكي ما يلاقيــــه   فـنـــفس حزيـنة
تناوحه الآلام من كـــــــل   جــــانب
                                                                                     

وهل تنصت الأسماع للحسرات؟
وجدُ  رمــــاه  الـــدهر بالعثرات
و تعتاده  الأحــــزان  مختلفات


 وهنا يرد عليه شاعر الاتحاد مواسياً رفيقه ومشد من أزره, ألا وهو توفيق صالح جبريل :

أري الأســد البـــاكي يفرج كربـــه
وينــــصت كالمصغــي لدقــات قلبه
جيــــــوش من الأحزان بدد شملها
                                   

وحيداً كثيب النفس في الظلمات
ويرعي نجوماً لحن مضطربات

بسيف من الصبر الجميل مواتي


  وها هو الشاعر والمهندس محمد أحمد المحجوب، يرد لتوفيق البكري مواسياً، فيقول:

يـــا شاعراً تبكي ومجــدك آتي
أرسلت دمعك من فؤادك فائضاً
                                           

اسقيني  خمراً مــن العبــــرات
فجرت دموع الصحب منهمرات



 ولم تقف هجرة بل هروب الطلبة التي تتوق إلي النهل من العلم من السفر إلي مصر وها هو رفيق أخر ألا وهو :الدرديري احمد إسماعيل يروي قصته : (وفي سنة 1922 أو ما قبلها بدأت تباشير حركة وطنية للنهوض بالسودان وكانت تعمل في الخفاء، وشجع رواد تلك الحركة الميمونة الزميلين المرحوم بشير عبد الرحمن وتوفيق أحمد البكري بالهجرة إلي مصر لطلب العلم فذهبا، وكانا الرائدين إذ بعد عطلة الصيف أو الخريف في سنة 1923 عاد الطلبة من مدنهم وقراهم وسمعنا بهجرة الزميلين. ومنذ تلك اللحظة قررت أن ألحق بهما، وجاء امتحان النقل من السنة الثانية للثالثة وكنت أول فرقتي، وجاء موعد اختبار الدفعة الثانية لمدرسة "كتشنر" الطبية فوقع عليّ الاختيار فرفضت لأني كنت معتزماً الهجرة (ولأوفر) مكاناً لمن كانوا يريدون، فأصر المستر "بودال" فرفضت مؤقتاً. ولما جاءت عطلة صيف 1924 بدأت تباشير الحركة الوطنية بقيادة "جمعية اللواء الأبيض" وقامت أول مظاهرة بأم درمان فسمعت بالنبأ وعدت من بلدي في الحال بنية السفر إلي مصر أو الاتصال بإخواننا الطلبة في العاصمة المثلثة فأصلت أولاً بالأخوين المرحومين (عبيد حاج الأمين وعرفات محمد عبد الله)، من جمعية اللواء الأبيض وكان همزة الوصل الأخ والزميل (صالح باخريبة). وكتب المرحوم (عبيد حاج الأمين) لمصر للزميلين (بشير وتوفيق)، فكانت إجابتهما مخيبة للآمال لأنهما كانا يعيشان علي الكفاف ويجاهدان جهاد الأبطال للدراسة ليلاً بأمعاء خالية!!!. فاتجه إلي أن أبقي وان تنظم حركات إضرابات في الكلية كجزء من اللواء، فاتصلت في ذلك الوقت بالطلبة الذين بقسم المهندسين ويقيمون بالكلية للتمرين مدة الصيف، وأذكر إن لم تخني الذاكرة ـــ منهم الأخوين (عليّ نور وعمر الريح)، وأذكر أني اتفقت مع المهندس (عليّ نور) علي أن نكون قسماً "للواء الأبيض"، وكنت أجتمع أيضاً بالأخ المرحوم (محمد عباس أبو الريش) مؤسس مكتبة "النهضة السودانية"، والمرحوم إدريس عبد الحي الطالب "بالمدرسة الحربية"، آنذاك ليقوم كل منا في إشعال روح الثورة في مدرسته. وفي ذات يوم وعلي حين غرة ذهب الصديق (صالح باخريبة) إلي منزل العم (مصطفي كشة) بحثاً عني، وعلمت بعد ذلك فذهبت إليه في منزله فناولني "ثلاثة جنيهات" علي إنها من المرحوم الزعيم (عبيد حاج الأمين)، ومن مال "اللواء الأبيض"، لأقوم إلي مصر في اليوم التالي وكان يوم الأربعاء في آخر يوليو سنة 1924 علي أن يقوم المرحوم (عرفات محمد عبد الله)، بأكسبرس الجمعة ونلتقي في الشلال، فاستقللت الدرجة الرابعة ووصلت الشلال وأقمت في "الجبل" بقهوة أفترش الثري ليلتين كاملتين ولم يبق معي غير "75" قرشاً. وجاء المرحوم (عرفات) وذهبنا إلي مصر فكنت ثالث طالب، والتحقنا ثلاثتنا بمدرسة (فؤاد الأول) الثانوية، في أكتوبر سنة 1924، وفي 18 نوفمبر 1924 قتل السردار السير لي ستاك في القاهرة فألقي القبض علينا، وكان أن تبع ذلك انقطاع أخبار السودان عنا، وكان هناك ما يشبه الستار الحديدي، وكان التعب، وكانت الحياة الشاقة إذ أكثر الناس عطفاً علينا يبتعد عنا لمضايقة البوليس السري. وفي سنة 1926، كان الدكتور "عليّ ماهر" وزيراً للمعارف فالتمس من صديقه وزير الأوقاف في ذلك الوقت "محمد عليّ علوبة" باشا، عمل مساعدة لنا فكان أن قرر لكل منا "75" قرشاً في الشهر، كنا ندفعها أجرة "الشقة" التي كنا نعيش فيها(رقم 14 حارة الجداوي بباب الخلق) وكانت هذه الشقة محجاً لكل السودانيين يتتبعون أخبار السودان وتكتب المقالات هناك من المرحوم عرفات والمرحوم فرغلي، وتوفيق وبشير، وكل من يدلي بدلوه في أذكاء نار الحركة الوطنية بقيادة وكيل "جمعية اللواء الأبيض" بمصر الأستاذ (عرفات محمد عبد الله). ولا ننسي فضل أخواننا المصريين من ضباط الجيش الذين خدموا في السودان وساهموا في مساعدتنا وفي مقدمتهم المرحوم الصاغ "محمد عوض" واللواء "أحمد الصاوي" والأميرالاي "عليّ عليّ موسي" وغيرهم، وكان الشيخ "محمد نور الحسن" خير عون لنا إذ لم نأكل اللحم أو نأكل أكلاً مغذياً إلا حينما يعود في الإجارة ليسكن معنا، وكان غذاؤنا (عيش وطعمية وسلطة لبن أو طحينة). وفي أكتوبر سنة 1927 تكرم طيب الذكر المرحوم (الأمير عمر طوسون)، بعمل إعانات شهرية لنا نحن الثلاثة (توفيق وبشير وكاتب هذه السطور الذي كان يتقاضي أربعة جنيهات بجانب الكساوي التي كانت تقوم بها دائرة سموه في بداية كل دراسي)..... وبمناسبة ذكر الأمير "عمر طوسون" قال لي الفريق "محمد عثمان هاشم" ـــ حيث والده أحد أعضاء الحركة الوطنية ـــ عندما حدثه والده عن طلبة العلم الذين يهربون إلي مصر ويجدون قلة من المال وتلزمهم مصاريف كثيرة فكتب إليّ "عبيد حاج الأمين"بأمرهم فعلم منه انه يراسل سمو الأمير "عمر طوسون" الذي عرف عنه كثير من الخدمات التي يقوم بها من أجل طلاب العلم بمصر، ووعدني الفريق بالبحث عن الخطابات التي تخص والده والتي كانت بينه وبين عبيد ولكن لم تمهله العلة التي ألمت به وفاضت روحه إلي بارئها رحمة الله عليه.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية