السبت، 16 ديسمبر 2017

نداء السودان الي الأمة البريطانية (وثيقة من الجزء العاشر) كتاب عبيد حاج الأمين




نداء السودان الي الأمة البريطانية (وثيقة من الجزء العاشر) كتاب عبيد حاج الأمين


وثيقة هامة إلي الأمة البريطانية: وهناك وثيقة هامة من رئيس وبعض أعضاء "جمعية اللواء الأبيض"، نُشرت في الصحف البريطانية باللغة الانجليزية، والأهرام بدورها ترجمتها ونشرتها ولكن بتاريخ متأخر وهو 16 يوليو 1924، أي بعد شهر من كتابتها، ولا أريد أن أكتب أي شيء سوي نشرها كما هي، فبها الكثير من توضيحات.


نداء السودان إلي الأمة البريطانية: وجهت جمعية اللواء الأبيض في 26 يونيو الماضي إلي الأمة البريطانية بواسطة أمهات صحف لندن النداء الآتي: ــ وقد وصلتنا صورته باللغة الانجليزية من الخرطوم وهذه ترجمته: ـــ (إن الغرض الذي ترمي إليه الجمعية " جمعية اللواء الأبيض " من وراء توجيه هذا النداء إلي الأمة البريطانية هو تنوير أذهان أعضاء الوزارة البريطانية ومجلس العموم واللوردات والصحف والرأي العام واطلاعهم جميعاً علي أمور سياسية ينفذ معظمها خفية علي يد ما يسمونه الحكومة " المصرية الانجليزية" في السودان، والغرض منها القضاء نهائياً علي مصير هذه البلاد بضمها بالفعل إلي الإمبراطورية البريطانية. أن الجمعية لتأسف لجهل البريطانيين في بلادهم مثل هذه الأمور جهلاً تاماً تقريباً. وما هذا الجهل سوي نتيجة الثقة التي تجاوزت الحد بما كان، اللورد كرومر، من المقدرة السياسية وبمن خلفه ممن كان يظن أنهم يشرفون اشرفاً فعالاً علي أعمال الحكام البريطانيين في السودان. ومن المحتمل أن التقارير المنمقة التي كان يقدمها هؤلاء الحكام إلي حكومة انجلترا قد عززت هذه الثقة وقوت ذلك الجهل. والآن وقد استقر الرأي علي تقرير مصير هذه البلاد علي آية حالة كانت، فقد حان أن تظهر في ضوء النهار الساطع جميع الحقائق الكامنة خلف سياسة الإصلاح الظاهرية التي تجري عليها حكومة هذه البلاد.  ويجب أيضا أن لا يغيب عن الأذهان أن المقالات المنمقة التي تنشرها الصحف البريطانية عن الهوة السخيفة التي تزعمون أنها تفصل بين السودانيين والمصريين من الوجهة السياسية والاجتماعية وغيرها، إنما كتبها أناس لا يعلمون مطلقاً حقيقة ما يكتبون، ويجب أن يعلم أيضاً أن شهادة الموظفين السابقين العائدين إلي بلادهم وأقوال المراسلين الذين مروا بالبلاد كمراسل جريدة "المورين وست" لا تفيد شيئاً لأنها ليست من الحقيقة في شيء إذ ليس بين هؤلاء من يجاوز في بثه الأمور السطحية وينفد من القشرة إلي اللباب. إن البريطاني الذي يراعي الترفع الدقيق في اختلاطه بنا قلما يعثر علي موارد يوثق بها لاستفاه معلومات خارج دائرة المتملقين وهم كثيرون هنا. فالمعلومات المستفاة من مصادرها الأصلية لا يمكن أن تصل إلي هؤلاء الرجال لأنهم لا يصفون إلا إلي عبارات الثناء علي الحكومة وأعمالها "المدهشة" ولا يوافقون إلا عليها، وكذلك ينال المتملقون مكافأة لهم "نياب الشرف" ذات الألوان البديعة وسيوف مذهبة وثياباً "دينية" وما يماثل ذلك. لا ترغب الحكومة بأي حال من الأحوال لا تصغي إلي كلمة انتقاد صحيحة تقال عن أعمالها ولا هي الآن بمنأ إلي سماعها ولذا اضطرت إلي إعلاء سمعة "المصلين" البريطانيين بالتملق. نرجو ألا تنسوا أن كلمة "حكومة" معناها  "البريطانية" لأنه لا يوجد شيء اسمه الحكومة المصرية الانجليزية في مكان ما من هذه البلاد. وليس من الصعب تبيان ذلك ـــ ففي الدور الحالي من المفاوضات المصرية البريطانية، يطوف جميع رسل الحكومة وعمالها بصفتهم الرسمية في أنحاء البلاد بسياراتهم فيجمعون وثائق الولاء للتاج البريطاني ويأخذون تواقيع الناس وأختامهم علي أوراق بيضاء ثم ينشرون في كل مكان النتيجة "المدهشة" لأعمالهم التي يصفونها من أعمال الشعب المبشرة. أما إذ تجرأ أي شخص علي أن يعرب عن أقل شعور بتأييد اتحاد السودان بالمملكة المصرية فأنه يجد العراقيل في كل خطوة يخطوها. فيقبض عليه ويحاكم ويسجن ويراقب وفي بعض الأوقات يغرم بالمال ليكف عن كفاحه السلمي. ولقد ملأ السجون الآن بالمواطنين من شيب وشباب ممن تجرءوا علي أن يهتفوا قائلين :"لتحي مصر" أو "ليحيي الملك فؤاد" الملك الشرعي لهذه البلاد. أما الذين يعلنون في الصحف المأجورة ولاؤهم (مهما كان كاذباً) للتاج الملكي البريطاني فيلقون كل تشجيع، والآن أليس من المحزن ألا يكون هناك غير صحيفتين محليتين، وأنه لم يسمح لهما البقاء إلا لأنهما مأجورتان؟ أن الرأي العام مختنق وحرية الرأي والخطابة .... في "المستشفي". والآن لنتكلم عن النغمة الكبرى التي يرددونها الانجليز ومحبو الانجليز ونعني بها مشروع الجزيرة فنقول: لكي يقدم الانجليز إلي معمل "لانكشير" ما تحتاج إليه من القطن بأرخص ثمن، جردوه أصحاب الأطيان من أراضيهم وأجروها عنوة للشركة بأبخس أجره يمكن تصورها ( بأقل من جنيهين للفدان كل عام!) وهذا ما يحصل عليه صاحب أخصب أرض منتجة في السودان مقابل أطيانه التي تدر لبناً وعسلاً (ويعني به القطن) لمصانع لانكشير!. أن هذه الأراضي هي الأساس الذي تبني علي زراعة الذرة التي هي غذاء كل سوداني منا، قالي ابن ملتجئ إذا ما تمت هذه المشروعات ـــ التي ستتم عما قريب. ليس هذا كل ما هنالك فان الأراضي الخصبة الواقعة علي النيل الأزرق قد استثمرتها الشركة منذ مدة طويلة وألقت كل من تجرأ علي إيداع أمواله بها إلي هاوية الفقر ـــ وهي مقدمة التسول والموت جوعاً. ثم هناك كسلا ودلتا نهر القاش؟ حقاً لقد ختم علي مصير السودانيين بخاتم العبودية والفقر والجهل الأبدي. وعلي ذكر الجهل أقول أن البريطاني في بلاده مرتاح إلي الأعمال "الباهرة" التي تجري هنا فيما يتعلق بالتعليم، ولا عجب فانه لا يدري مطلقاً ما في هذا التعليم الناقص الضعيف الأبتر من الضرر ويجهل انه اشد فتكاً من الجهل المطبق، فان الأولاد الأذكياء بغريزتهم الذين يكونوا لديهم كفاية لا تنكر ليكونوا أناس عاملين، يتحولون إلي شباب مغرورون نصف جهلاء "متاجلزين" لا يصلحون إلا ليكونوا آلات ثانوية في دكان الحداد الانجليزي الذي تصنع  السلاسل لتقييد السودانيين وزيادة تكبيلهم يوماً بعد يوم، ونعني بهذا الدكان: الخدمة الملكية في السودان والجيش "المصري". لقد كانت الخطة الممكن إجراؤها أن يرسل تلاميذ السودان بعد كلية غوردون إلي المدارس العليا في مصر ولكن ..... ليس في السودان غير مدرسة ثانوية واحدة بعد ستة وعشرين عاماً أمضت في سياسة الإصلاح ولا تزال المدرسة العليا الأولي في دور المهد. هل سمع بمدرسة الضباط الملكيين الثانويين (لمأمورين) التي تختار تلاميذها من أجهل الشباب؟ ليس علي الطالب لكي يستطيع الدخول فيها إلا أن يقرأ الأرقام والحروف وأن يكون مدلها يظهر بمظهر "الأعيان" وقد حدث أن أرسل أحد الحكام "امباشياً" إلي المدرسة فقبلته وأرسلته في الحال وأرسل أخر طاهية! فما أغرب هذا التطرف! أن ألبلشفيك ليصفقون استحساناً لهذا العمل الذي يأتيه الاستعماري! ــــ فهؤلاء الشباب "المتعلمون" الذين يتبين أنهم مداهنون سرا، هم فقط الذين يجمعون مع جماعة الجهلاء ويقبلون في المدرسة. بالله ضعوا أصابعكم في آذانكم إذ ما سمعتم تلك الفسطة والخديعة الإشاعة القائلة إن السودانيين راضون عن البريطانيين عن طيب خاطر ـــ هذه خديعة لا يقبلها أحد لان السوداني يشعر بوخز الحكم البريطاني. ربما استطعتم أن تقدروا قيمة الإمضاءات التي تشهد بولاء العامة الجهلاء الذين خيروا بين "الالواب" أو المحاكمة إذا علمتم أن الوقار من الموقعين علي تلك العرائض قد اعترفوا صراحة أنهم أن أمضوا علي عرائض الثقة، لأنهم وجدوا أنفسهم مرغمين وماذا يستطيعون عمله إذ أمرهم الغاصب البريطاني الذي بيده القوة أن يفعلوا ذلك ! لا شيء غير التوقيع ما لم تشتهي نفوسهم الاستشهاد. هذه هي الدلائل علي الولاء العظيم للتاج البريطاني الذي أعرب عنه جميع الذين يحسب لهم حساب في السودان، وهي الدلائل التي في النية إرسالها إلي حكومة انجلترا كحجة قوية ضد الوفد الرسمي المصري. نكتب هذه السطور في وقت يقبض فيه علي جماعة جديدة من "المهيجين" وهم يقومون بمظاهرات سلمية غير مسلحة تأييداً للمصريين، ويذوقون اليد الحديدية للحكم البريطاني: بضربات السيوف والقبض والحبس وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله. تأسست هذه الجمعية عندما اخترقت صيحة الوطنيين المصريين وهم يطلبون الحرية، عنان السماء فاهتزت أعصاب كل أمة مستعبدة في العالم هزة قوية مملوءة حماساً وانتعاشاً. وهي  (الجمعية) ترمي إلي رفع النير البريطاني عن أعناق هذه الأمة السودانية المنكوبة وإعطاءها ما تستحق من الحرية الطبيعية التي تهدمها المطامع الاستعمارية منذ العصور القديمة. قد يتساءل بعض الانجليز قائلين "لماذا يريد السودانيون كأمة قائمة بذاتها أن يستبدلوا حكماً أجنبياً بأخر؟" وعلي فرض أن العبارة التي استخدمت في السؤال صحيحة، فان الجواب هو البساطة بعينها ـــ وسنتكلم فيما بعد عن وحدة الأمتين الشقيقتين من الوجهة السياسية والاجتماعية والجغرافية والدينية.  لقد أبي المصريون أن يتجاهلوا "خطر مشروعات الري" وما في انفصال القطرين من الإخطار المادية وفي الوقت نفسه أعطوا تأكيدات لا يمكن إنكارها عن رغبتهم في روحاً وجسماً بالأمة الشقيقة علي قاعدة أمتن وأسهل تنفيذاً من القاعدة التي تربط انجلترا باسكتلندا، فيكون للبلدين تاج واحد، ومكان واحد، وقانون واحد، ومساواة بين السكان من البحر المتوسط إلي خط الاستواء ومن طرابلس و وادي إلي البحر الأحمر. أما البريطانيون فليس لديهم وقت لإعطاء تأكيدات، أنهم يريدون العمل وهم يعلمون ولكن بالله إلي آية غاية؟ أنهم يعملون لهدم هذه الأمة، واستثمار السياسة البريطانية ورؤوس الأموال البريطانية، وفي النقط التي ذكرت في بداية هذا النداء دليل لا يمكن إنكاره علي صحة هذه السياسة. أما فيما يتعلق "لهوة السحيفة" التي يكثر بعض الصحف من الإشارة إليها ويزعم بوجودها بين السوداني والمصري، فان كل من ينظر إلي الأمور نظرة إنصاف مجردة عن الهوى، يعتقد في الحال أن الأمتين الشقيقتين ـــ وكلتاهما من الجنس العربي، وكلتاهما تدين بالإسلام، وكلتاهما تتصل بالا خري بكل نوع من أنواع الروابط منذ العصور القديمة في التاريخ ــــ قد اختلطتا وارتبطتا بالمصاهرة والتجارة والزراعة والفائدة المشتركة حتى صارتا أمة واحدة. والاسكتلندي يفهم لغة ساكن دارفور أكثر مما يفهم اللندني الاسكتلندي ــ ناهيك بالايرلندي!. أن الجمعية التي تؤيدها عامة الشعب كما يؤيدها أصحاب الأنساب وجماعة المتعلمين ـــ تثق  بحرية أراء العمال وعدالتها كما تثق في الشعب البريطاني وإنصافه علي اختلاف ملله ونحله. فأملنا أن يقوم كل من يتلقي هذا النداء بنصيبه فيرفع صوت هذه الأمة في الدوائر السياسية والاجتماعية والتجارية، ونستحلف الشعب البريطاني بكل مقدس لديه إلا يصم أذنيه عن هذا النداء أو يدخر وسعاً في إعلانه فإننا نثق في عطفه ونعتمد علي مساعدته في بلوغنا إلي غايتنا المقدسة .

جمعية العلم الأبيض

                     عليّ عبد اللطيف                    أ . م . عبد الله
                        رئيس                                سكرتير

       هـ . صالح   . عبد . المدثر . الحاج الأمين
        أعضاء اللجنة الإدارية

الخرطوم في 26 يونيو 1924 م 



الأهرام في يوم الأربعاء 16يوليو1924ــ 13 محرم 1342هــ ـــ العدد(14423)





0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية